كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَنَهَوْا عَنْهُ؛ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِيِّ فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، أَوْ بِحَقِّ خَلْقِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ، هُوَ اللهُ، فَلَا أَكْرَهُ هَذَا، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الْمَسْأَلَةُ بِحَقِّهِ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ؛ فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ إِذَا مُنِعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقٍ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا بِخِلَافِ إِقْسَامِهِ، سُبْحَانَهُ، بِمَخْلُوقَاتِهِ؛ كَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِقْسَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ». وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي لَفْظٍ «فَقَدْ كَفَرَ»، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ»، وَقَالَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَإِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِالْمَخْلُوقَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ، أَوْ بِمَا يَعْتَقِدُ هُوَ حُرْمَتَهُ؛ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالصَّالِحِينَ، وَالْمُلُوكِ وَسُيُوفِ الْمُجَاهِدِينَ، وَقُرْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِيمَانِ السَّدْقِ وَسَرَاوِيلِ الْفُتُوَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ- لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِذَلِكَ.
وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: هِيَ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: لَأَنْ أَحَلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللهِ صَادِقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
وَالثَّانِيَةُ: يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ، وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ، مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ، فَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ، هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ.
وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ، لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَحَدُهُمَا: الْإِقْسَامُ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَالثَّانِي السُّؤَالُ بِهِ، فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، كُلُّهُ ضَعِيفٌ، بَلْ مَوْضُوعٌ، وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: «أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ».
وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ، وَهُوَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: «اللهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ تَوَسَّلَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّؤَالِ بِهِ لَمْ يَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ.
وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَوْلُهُ: «اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنِ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إِلَى السُّؤَالِ بِالْعَبَّاسِ، وَسَاغَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا؛ فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبٍ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ، وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ، وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَبِرُّ قَسَمَهُ، فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا إِجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ، فَإِنَّ اللهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ؛ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَنْ نُكْثِرُ، قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ».
ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ، فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ، بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَوِ السُّؤَالِ بِهِ، فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ إِنَّ هَذَا سَبٌّ لِلرَّسُولِ أَوْ تَنْقُصٌ بِهِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي سَيِّدِي! وَقَالَ: قُلْ كَمَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ: «يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، يَا كَرِيمُ»، وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: يَا حَنَّانُ، يَا مَنَّانُ! فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَأْثُورٍ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ بِمَخْلُوقٍ، نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَسْأَلُوا اللهَ بِمَخْلُوقٍ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ قَالَ عُمَرُ: «اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَجْدَبُوا إِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِسْقَائِهِ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ، لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، لَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا غَيْرِهِ. وَحَدِيثُ الْأَعْمَى سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ السُّؤَالُ بِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ لَقَالُوا لِعُمَرَ: إِنِ السُّؤَالَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ أَوْلَى مِنَ السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلِمَ نَعْدِلُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ، إِلَى أَنْ نَتَوَسَّلَ بِبَعْضِ أَقَارِبِهِ؟ وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَعُدُولٌ عَنِ الْأَفْضَلِ، وَسُؤَالُ اللهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا، وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْبِ، وَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَهُ مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَتَوَسَّلُوا بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ، كَمَا تَوَسَّلَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ، اقْتِدَاءً بِعُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُسْأَلُ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ؛ لَا بِنَبِيٍّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ.
«وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَالِكٍ؛ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا- فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا، وَيَسْتَنِدُ إِلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَكُنِ التَّوَسُّلُ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا، بَلْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ نَقْلَهَا، وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى» انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا فَلْيَقْرَأْ كِتَابَ «قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ» كُلَّهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ الْجَامِعُ فَهُوَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ مَا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَرْجُو أَنْ تَصِلَ بِهِ إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ لَكَ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ؛ إِذْ جَعَلَ مَدَارَ الْفَلَاحِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا. وَالتَّوَسُّلُ هُوَ ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا؛ أَيِ الْعَمَلُ بِالْمَشْرُوعِ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ عَلَى أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} (53: 39- 41) {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (20: 15) {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (27: 90). نَعَمْ، دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ لِغَيْرِهِ قَدْ يَنْفَعُهُ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا اللهَ وَسَأَلَهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهَا فَلَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (28: 56) وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ دَعْوَةً وَاحِدَةً مُسْتَجَابَةً قَطْعًا، فَمَا عَدَاهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ وَلِذَلِكَ خَبَّأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوْتَهُ لِيَشْفَعَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَعْلَمُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، أَنَّ دُعَاءَ غَيْرِكَ لَكَ لَا يَطَّرِدُ نَفْعُهُ مَهْمَا كَانَ الدَّاعِي صَالِحًا، فَهَلْ يَكُونُ شَخْصٌ غَيْرُكَ وَسِيلَةً وَقُرْبَةً لَكَ إِلَى اللهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ لَكَ؟ هَذَا شَيْءٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا عَقْلٌ إِنْ جَازَ أَنْ يُحَكَّمَ الْعَقْلُ فِي قُرُبَاتِ الشَّرْعِ. فَالْعُمْدَةُ فِي تَقَرُّبِ الْإِنْسَانِ إِلَى اللهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ هُوَ إِيمَانُهُ وَعَمَلُهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ لِنَفْسِكَ مَا شَرَعَهُ اللهُ لَكَ وَجَعَلَهُ سَبَبَ فَلَاحِكَ، وَلَمْ يَدْعُ لَكَ غَيْرُكَ بِذَلِكَ؛ فَكَيْفَ تَكُونُ قَدِ ابْتَغَيْتَ إِلَى اللهِ الْوَسِيلَةَ؟ وَهَلْ تَسْمِيَتُكَ بَعْضَ عِبَادِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ وَسِيلَةٌ؟ أَوْ طَلَبُكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَشْفَعَ لَكَ- أَيْ يَدْعُو لَكَ- يُعَدُّ امْتِثَالًا مِنْكَ لِأَمْرِ اللهِ تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}؟ كَلَّا! إِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْمَيِّتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ هَلْ كَانَ مَقْبُولًا أَمْ غَيْرَ مَقْبُولٍ! فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ الْغَيْبِيِّ، {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَحْدَهُ، وَمِنْهُ أَمْرُ الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ لَا تُنَالُ بِالسُّؤَالِ هُنَا، وَإِنَّمَا تُفَوَّضُ إِلَيْهِ تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (39: 44) {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2: 255) {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (21: 28). فَسُنَّةُ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْبَعُ إِذَا أَكَلَ عِنْدَهُ وَالِدُهُ أَوْ أُسْتَاذُهُ أَوْ أَحَدُ الصَّالِحِينَ، وَلَا يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ إِذَا تَرَكَ الدَّوَاءَ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ تَظْهَرُ فِي أَعْمَالِهِ أَخْلَاقُ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ أَوِ الْوَلِيُّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ جَوَادًا سَخِيًّا شُجَاعًا أَمِينًا، لَا يَبْذُلُ هُوَ الْمَالَ بِذَلِكَ السَّخَاءِ، وَلَا النَّفْسَ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ، وَلَا يُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا بِتِلْكَ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَخْلَاقِهِ، لَا عَنْ أَخْلَاقِ الرَّسُولِ أَوِ الْوَلِيِّ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ فِي الدُّنْيَا أَلَّا تَعِيشَ بِأَخْلَاقِ غَيْرِكَ، وَلَا بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ دَارُ الْكَسْبِ وَالتَّعَاوُنِ، فَكَيْفَ يَنْفَعُكَ إِيمَانُ غَيْرِكَ وَصَلَاحُهُ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (82: 19)؟
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ مَدَارِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لَا عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا، كَمَا يَتَوَهَّمُ الْكُفَّارُ فِي أَمْرِ الْفِدْيَةِ، فَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَبَذَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيَكُونَ فِدَاءً لَهُمْ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَتَقَبَّلُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَلَا يُنْقِذُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاةِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ خَارِجَهَا {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (91: 9، 10) وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَمَا اسْتَتْبَعَهُ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ؛ اتِّكَالًا مِنْهُمْ عَلَى الْفِدْيَةِ وَالشُّفَعَاءِ، وَهَذَا فَرْقٌ جَوْهَرِيٌّ وَاضِحٌ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ؛ فَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَسُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا أَنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ الْبَدَنِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْ نَفْسِهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ؛ فَالنَّصَارَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّ خَلَاصَهُمْ وَنَجَاتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ بِكَوْنِ الْمَسِيحِ فِدْيَةً لَهُمْ يَفْتَدِيهِمْ بِنَفْسِهِ مَهْمَا كَانَتْ حَالُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ يَضُمُّونَ إِلَى الْمَسِيحِ الرُّسُلَ وَالْقِدِّيسِينَ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اللهَ يَحِلُّ مَا يَحِلُّونَهُ، وَيَعْقِدُ مَا يَعْقِدُونَهُ، وَأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَبِذَلِكَ تَصْلُحُ نُفُوسُهُمْ، وَتَكُونُ أَهْلًا لِرِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ وَالْفِسْقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءٌ، وَلَا تَنْفَعُهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ.